ذلك الرجل الساحر الذى كان يجوب الحى فنتبعه نحن الأطفال ونحن منبهرون
بما يستطيع ذلك الرجل صنعه بتلك الألة الخشبية الصغيرة التى يحملها بين يديه فيحرك
خيوطها الصغيرة ويخرج تلك النغمات ، مذ ذلك الحين وأنا استطيع أن أجزم أن مثلى
الأعلى ودافعى لدخول معهد الموسيقى هو ذلك البائع هو ما دفعنى لسماع الموسيقى
الكلاسيك وروائع بيتهوفن وموتسارت وتعلم كيفية عزفها، عشقت الموسيقى من خلال بائع
الربابة في الحى وكنت أصرح بذلك علانية في أثناء تواجدى بالمعهد وكان زملائى
يسخرون منى وكنت أتجاهل سخريتهم فقد كنت أرى فيه رجلاً فناناً مبدعاً وليس مجرد
رجل يجول الحى ليبيع الربابة لكنى خجلت أن أصرح بذلك عندما سألنى الصحفى في حفل
تكريم الموسيقيين، فقد تبدلت الطفلة بداخلى وتحولت لشخص أخر، فقد جبلتنى حياة
الشهرة والأضواء بطابعها الذى يغير خصائص الأشياء، ولى أن أعترف أنه على قدر ما
أعطتنى الشهرة التى ركضت وراءها طوال مشوارى على قدر ما خصمت من رصيد متعتى
وحريتى، حتى أصبحت أسأل نفسى هل مازلت الطائر الحر المبدع الذى كان، هل ما زالت
تلك الروح الشفافة التى كانت تلهم من السماء بوحى من النغمات العذبة تسمعها مع عزف
الطبيعة وزقزقة العصافير، أم أصابنى الجرح في العمق فنزفت كل دمائى التى تنبض
بالحياة، والحق يقال أنها ليست الشهرة فقط، فالشهرة جزء من دائرة القدر التى
احاطتنى ولم أكن أعرف أنه كلما زادت مساحة شهرتى وسعادتى بها، كلما قل نصيب باقى
جوانب الحياة داخل الدائرة، ففى المرة الأولى التى صعدت فوق خشبة مسرح الأوبرا
لأعزف تلاها سماع خبر وفاة والدى ذلك الرجل الذى كان يحتوينى بحنانه وتفهمه،
ويدفعنى للتقدم للأمام وكلما كبوت مد يده الحانية ليرفعنى من كبوتى ويعيد ثقتى
بنفسى، وفى المرة الثانية عندما سافرت للمرة الأولى في جولة حول العالم لأحقق عالميتى
على أكبر المسارح في منافسة رائعة مع أكبر موسيقيين في العالم عدت لأجد أمى رفيقتى
في الحياة تصارع عدواً خبيثاً في أحد المستشفيات وبدلا من أن تكون أول ذراع
يتلقفنى بعد عودتى فرحة بنجاحى، وبدلاً من أجدها وقد جهزت لى من صنع يديها ما لذ
وطاب حتى تعوضنى على حد قولها عن أكل الفنادق الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع،
وجدتها ممددة وسط البياض موصولة بأنابيب وأجهزة تمنعها من الكلام والحركة، وعجبت
لهذا القدر الذى أختار لأمى موتاً يشبه شخصيتها فقد عاشت دائما في صراع وحرب مع كل
ما يهدد بيتها وأولادها وزوجها، وهانذا يتم تكريمى وبعد لحظات سأذهب مع زوجى
للمأذون لينهى كل منا فصلا مريراً كتبه في حياة الأخر، بعد قصة حب ضمتنى كما تضم
الأرض والسماء نهراً فياضاً من العطاء، كيف جف النهر، وكيف نمت فيه الأشواك
وأحاطته الطحالب من كل جانب حتى اختنقت ممراته من المنبع حتى المصب، كيف استطاعت
الشفاة التى سطرت بكلماتها علاقة كانت هى الحياة لشفاه تطعن وتملىء القلب جراحاً،
يقولون أن الألم هو ملهم الفنان، ولكن كثرة الألم فرغت ما بروحى من إبداع لتشغلها
بالأحزان، ولذا عدت لحيينا القديم وها هو مازال على حاله والمدهش أن بائع الربابة
ملهمى مازال يجوب الحى ويتجمع خلفه الأطفال، لكن نكهة أنغامه قد تغيرت، فهل فقد
روح إبداعه لكبر سنه أم لكثرة أحزانه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق