الاثنين، 19 نوفمبر 2012

صمتك جعلنى أراكِ



يصحو من نومه كل صباح يقوم بنفس الأشياء الروتينية التى يقوم بها كل صباح، يغتسل، يرتدى ملابسه، يحتسى فنجان القهوة، ينزل إلى عمله يرتاد القطار بعد أن يشترى الجريدة ويتصفحها في طريقة لعمله وهو يركب القطار بعد أن يشترى الجريدة ويتصفحها في طريقه لعمله وهو يركب القطار وبعد أن ينتهى منها ينظر إلى البحر، كم تعكس صفحته الهادئة الساكنة مشاعره الرقيقة الهادئة الخامدة التى لا يحركها شىء، تلتقط عيناه طفلاً يلقى حجر في الماء فتتكون دوائر وكأنها شغب حدث في مدينة الأموات، يصل إلى عمله يؤديه بشكل روتينى، ويعود من حيث أتى، ويقضى ليله بين الأصدقاء على القهوة، يتندورن بالنكات المعادة ويثرثرون في أخبار هذا وتلك ويناقشون أخبار الرياضة والسياسة أشياء تكرر نفسها بنفسها كل كل يوم من أجل كسر حدة الرتابة في الحياة، ثم يعود إلى منزله في منتصف الليل وهو يشعر بأن الليل لم ينته بعد و أن المنزل قبر صامت يضم رفاته وينام مؤرق الجفن ويعود ليصحو في اليوم التالى ويدور في نفس الساقية وهو مغمض العينين إلا في ذلك اليوم الذى لمح فيه عينان يعتصرهما الحزن ووجه شاحب وفم تندهش لأكتشافك وجوده في وجه صاحبته لفرط سكونه وسواد متصل من شعر الرأس حتى الرداء الذى يلف قوام صاحبته فلا يظهر منها إلا وجه وكفين وقدمين كأنهم أهلة تشق عتمة السماء لا يدرى لما كان هذا اليوم مختلفاً في حياته ولما جذبه هذا المنظر الذى يبعث على الحساس بالدفء والأمان والإحتواء فهذا الغريب وقد غير هذا الأحساس روتين حياته في هذا اليوم وظل قابعاً في منزله شارد الذهن ولم يفق إلا على صوت المنبه ليعلمه بأن وقت اللقاء وقد حان هرع إلى محطة القطار لعل وعسى أن يراها وهى تركب القطار المتجه إلى الناحية المعاكسة وعندما يأس ذهب ليركب قطاره وفى أخر لحظة أشرق ذلك الليل المتحرك، قفز قلبه بين ضلوعه فرحاً وتهلل وجهه بشراً وأحس وكأن الروح ردت فيه وظل واقفاً يحملق فيها من بعيد حتى توارت في موج الزحام البشرى وأختفى قطارها ولأول مرة يشعر أنه يتمنى أن تصبح كل ساعات اليوم نهاراً ليراها فهى إشراقة النهار وبهجة الليل بالنسبة له ودفء لمشاعره، وظل هذا الوضع لشهور وهو ينسج بخياله قصصاً حول من تكون ولماذا ترتدى السواد؟ ولماذا تركب القطار المعاكس؟ وأين تذهب؟ وتمنى أحياناً في نفسه أن يحدثها ويعرف عنها كل شىء ولكنه كان يشعر أن هاتان الشفتان المطبقتان لو تحركتا لزال جمال اللوحة الصامتة وبهت فهو يرى في صمتها شيئاً غريباً، فصمتها هو ما جعله يراها فهى كالبحر الهادىء الساكن الذى يطمئنه وهو محبب إلى روحه ونفسه وذات يوم قرر أن يركب قطارها ويجلس أمامها كان مبهوراً بها يجلس أمامها كالمتعبد في محرابه، أو كالمأخوذ بلوحة للفنان ليوناردو دافنشى أو الفنان مايكل أنجلو، كان يحدث نفسه لو أنهما رأيا هذا الجمال الصامت لرسموا له آلاف اللوحات، كانت تشعره بأنها البراءة والطهارة متشحة بالسواد وكانت المحطات تمر وهو لا يشعر إلا بوجودها ولم يفق إلا على محطة توقفت عندها قصته الصامتة وقد نزل ركاب وصعد أخرون كالمعتاد، إلا أن هناك راكب غير ملامح الموقف عندما أتى من بعيد فابتسمت له وكانت أول مرة يرى فيها ابتسامتها ويرى شفتاها تتحركان ثم تعلقت عيناها بعينى الراكب المجهول وسكنت يداها في يديه وعندها تبادلا الحديث كان صوتها كأنه عصا المسرح التى تعلن نهاية فصول المسرحية، أو كالحجر الذى ألقاه الطفل فقضى على هدوء البحيرة وسكونها وعاد وقد قضى على أحساسه بالدفء والأمان الذى تمتع به لشهور وعاد إلى حياته الروتينية بصمت جريح، ولكنه أيقن أن الجمال في الكلام كما هو في الصمت، وتبقى الحقيقة هى أن صمتها جعله يراها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق