الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

أميرة الليل


أنها أميرة الليل والصباح مع أنى أراها بالنهار لكن الفرق أن أميرة النهار من المستحيل أن تكون ملكاً لى أما أميرة الليل فهى ملكاً خالصاً لى فهى من نسج خيالى لها عينان نجلاوان ووجه طيب هادىء وابتسامة ساحرة ملامحها وقسمات وجهها رقيقة وصغيرة كأنها طفلة لكن لها من قوة الشخصية مايجبرك على احترامها ويدخل فى قلبك هيبة لها، عشقتها عينياي منذ أن رأيت تأثيرها على كل من حولها، لكن الفرق بينى وبينها كالفرق بين السحاب والتراب، فبالرغم من وسامتى وذكائى إلا أنها مؤهلات لا تجعلنى فى مصاف من يستطيعون نيل قلبها فهى.....، آآآه إن قلبى يرفرف كالطير الذبيح عندما أذكر أسمها، كم أحبها، فهى تؤرق نومى وتزورنى فى أحلامى ، كم كنت أرجو أن أكون فارس أحلامها، أه لوكنت، لكنت قدمت لها نجوم السماء وفرشتها تحت أصابع قدميها الجميلة لتخطو خطواتها التى تمتلىء بالدلال، أننى أعمل أنا وهى فى نفس الشركة لكننى سائق فى الشركة التى تعمل هى موظفة ذات وضع هام، يحمر وجهى عندما أراها وكأنى فتاة عذراء، أنهم يقولون عنى أنى ممن لاتستطيع أنثى مقاومته، وأننى من أبناء الجان فلا تستعصى على أنثى، لكننى مع أميرتى هذه أكون فى وضع مختلف أننى أخاف أن تسمع دقات قلبى المتسارعة وخفقاته المضطربة، أخاف أن أنظر إلى عينيها فيفتضح أمرى، أعكس صورتها بالمرآة وأختلس إليها النظر، وأحتفظ بصورتها فى ذاكرتى حتى يأتى المساء فأذكرها وأظل أفكر فيها بعيداً عن كل البشر، ويأتى الصباح فأراها وتشرق شمس اليوم منذ لحظة رؤيتها لا أدرى لماذا تتسمر يداى فوق عجلة القيادة ولا أتحرك حتى أرقبها وهى تنزل من السيارة وتتحرك أمامى لأراقب خطواتها الرشيقة، أننى أحسد كل من يجالسها أو يتحدث معها، حتى أننى تشاجرت ذات مرة مع أحد الأشخاص لأنه لم ينتبه إليها وهى تعبر الطريق فتناثرت مياه الشتاء على طرف ثوبها، لقد شعرت لحظتها أنها نظرت إلى بامتنان وكأنها تشكرنى بعينيها، أقسم أنها كانت نظرة ذات مغزى ومن يومها وأنا أشعر وكأنها هى الأخرى ترقبنى فى المرآة وتبتسم لى خلسة من وراء زملائها ودون أن يشعروا، كدت أطير من الفرح وتلقفنى الليل بسحره وهوى بى إلى عالم الأحلام الممكنة والمستحيلة ، ووجدت أميرتى معى تقتنى بسحرها ودلالها كل ليلة، إلى أن جاء يوم وغابت فيه، وتوالت الأيام لم أستطع صبراً فسألت عنها فإذا بها فى إجازة وبعد أيام أشرقت شمس أيامى كانت مشرقة أكثر من عادتها نظرت إلى وابتسمت ابتسامة عريضة وطلبت منى الحضور إلى مكتبها فى تمام الساعة الحادية عشر ظهراً ، خفق قلبى وظل عقلى يدور وتدور داخله الأفكار هل ممكن أن تكون شعرت بى ،على الفور ذهبت لمنزلى لاستعد وأبدل ثيابى واشتريت باقة من الورد الذى يشبهها ، وقررت إنى سأصارحها إن لم تبدأ هى، عشت لحظات وكأن الكون يزفنى ويزغرد من حولى وطرقت باب المكتب فإذا حشد كبير وإذا بأميرتى تبتسم من بعيد وتأتى وهى تحمل طبقاً به حلوى وكوب عصير لتقدمه لى شكرتها وسألتها عن المناسبة، قالت بمناسبة عقد قرآنى وأرتنى الدبلة الماسية، مادت الأرض بى ووقعت باقة الزهر من يدى فجثت هى لتأخذها وقالت لى من أخبرك لقد كانت مفاجأة للجميع فقلت لها لقد شعرت أن اليوم لديك مناسبة خاصة فقررت أن أكون مستعداً نظرت هى لباقة الزهر ثم لى كانت نظرتها عميقة، وكأنها لمحت دمعتين توارتا فى زاوية عيونى وكادت أن تسقطا لولا أن كرامتى الجريحة حالت دون سقوطهما، أخذت الحلوى والعصير ومضيت لأحتفل وحدى بمأتم أميرة الصباح فلم يعد لى غير أميرة الليل لن يسلبها منى أحد. 

الاثنين، 24 ديسمبر 2012

العودة تحت قدميها



جاءنى صوتها لأصحو من أحلامى التى سافرت بى من سريرى فى منزل أبى رحمه الله إلى أوروبا بلد الحرية والجمال والمغامرات الممتعة، كررت نداءاتها لى ( يلا أصحى هتتأخرى عن شغلك) وتابعت حديثها اليومى المكرر الذى أصبح أكثر من فنجان القهوة بالنسبة لى كمنبه قوى يقصينى عن سريرى ودفئه الوثير لأغمر رأسى تحت صنبور المياه حتى لا أسمع بقية الحوار المعاد الرتيب الذى تبدأه كالآتى( هتفضلى مشيلانى همك، كبرتى ولا كبرتيش، ماهو لو كنتى متجوزة كان فاتك الوقتى صحيتى جرى من سريرك تحضرى الفطار لجوزك وعيالك وتجهزى أكل الغدا قبل ما تخرجى عشان تلحقى تخلصيه بعد ما ترجعى من شغلك، ولو كنتى متجوزة، كان فات عندك حتة عيل ولا اتنين، يا بنتى اللى قدك ولادهم فى المدارس، وعندهم عيل واتنين، بصى لأخواتك ولا بنات خالاتك ولا صاحباتك فلانة وعلانة) ويظل هذا الحوار المقرر عليه سماعه يوميا كل صباح الذى أقسمت لأمى مراراً أنه لا داعى لتكراره لأنى حفظته عن ظهر قلب وأنى أدرك أنى أصبحت عانس، وأن حملى وإنجابى للأطفال أصبحا على المحك، لكنى لن أتزوج لمجرد الزواج وإرضائها ولكنى سأتزوج رجلاً يرضى طموحى ويدعم مستقبلى ويشاركنى ليس الفراش والطعام والمنزل وحسب، إنما يشاركنى الرأى والفكر والثقافة وأسلوب الحياة ، لكنى يئست فما أن أقول تلك الكلمات حتى أفتح مجالاً لبقية حوارها المؤنب بأننى (مخى طاقق) وأنها لا تعرف( أنا طالعة لمين) وأنى أصبحت أعيش (عشان أقهرها وأكسر خاطرها وأعيشها فى قلق ورعب على مستقبلى بعد موتها) وأعود لأطمئنها أننى طالما لم أتزوج سيمد الله فى عمرها لتكون عوناً وسنداً وونيساً لى فى الدنيا وأن فكرة بقاءها معى أفضل من مليون عريس وأن العريس رزق والرزق بيد الله، ويظل الحوار والجدل متصلاً لا ينقطع ولا تهدأ أمى و لا أستطيع إقناعها ولا تستطيع اقناعها ولا تستطيع إقناعى ولا يعدل أياً من أفكاره، لكن ما جعل اليوم مميزاً فى حلقة الجدل والتأنيب الصباحية إنى ارتكبت خطئاً فظيعاً عندما قلت لها أن فرح ميرفت صديقتى والعانس قبل الأخيرة والباقية لليوم، وما أن أخبرتها ذلك حتى أصبحت أمى كالمرجل الذى يغلى فوق فوهة بركان على وشك الثورة، ولم أملك إلا أن أخطف حقيبة يدى ومفاتيح سيارتى بعد أن أخبرتها أن الجدل لن يفيدنى وأدعو الله أن يأخذنى الموت لأستريح من عناء سماع كلماتها فى هذا الشأن ليل نهار، فقد اصبحت كلماتها كالنحيب على الموتى، اسكتتها كلماتى خرجت وصفعت الباب ورائى فى غضب شديد، وقدت سيارتى وأنا تقريباً لا أرى الشارع وقررت أننى لن أعود للمنزل ولأنفس قليلاً عن غضبى أرسلت لها رسالة نصية بالموبايل مفاداها (أن علاقتنا أصبحت متوترة جداً بشكل لا يطاق، وإنى أريد أن أرتاح وأهدأ فسأقضى يومين أو ثلاثة خارج المنزل وما أن مرت دقيقة حتى رن هاتفى بشكل متواصل لا ينقطع، كانت المتصلة أمى لكن من شدة غضبى منها قررت أن أغلق هاتفى المحمول، وأكملت القيادة وأنا فى قمة الغضب، إلا أن أوقفنى عسكرى المرور بصفارته التى أفاقتنى من شرودى لأننى كسرت الإشارة دون أن أدرى وقد وقفت للحصول على المخالفة وعندها قطع حوارى مع العسكرى صرخة مدوية وسيارة تفرمل بسرعة شديدة، ليقع ناظرى على أم تقع على الأرض أمام السيارة وتقذف بابنتها الصغيرة على الرصيف لتبعدها عن الموت ونتلقاه هى بدلاً عن ابنتها مع أن الأبنة هى التى تركت يد أمها وهرولت مسرعة إلى الطريق غير مبالية بالسيارات، لكن الأمر لم تفكر ثانية وافتدت ابنتها بروحها، هذه الحادثة ألهت عن عسكرى المرور فهرول تجاه الحادثة وتركنى، فعدت لقيادة سيارتى وقد زال غضبى وبدأت الصور والذكريات تتوالى و تتواتر أمام عيناياى أمى وهى تمرضنى، وتطعمنى، وتوصلنى لمدرستى، وتمنع عنى عقاب أبى، وتذاكر لى، وتصطحبنى للنزهات والحدائق، وتمسح دموعى وتحمل همومى وتحقق عنى وتحاول تحقيق أمنياتى، وغيرها من آلاف الصور والذكريات الماضية والحاضرة فلم أفق إلا وأنا أعود أدراجى نحو منزلى لأهرع إليها وأجدها تجلس وهى تنتحب فأجلس عند قدميها أقبلهما فتحاول هى رفعى فأرجوها أن تدعنى أشم ريح الجنة فحقاً الجنة عند قدميك....

الأحد، 23 ديسمبر 2012

وخبت النار تحت الرماد



كلما رأيت ناراً تخبو تذكرت صديقتى الحميمة وهى تجلس أمامى، عيناها ككؤوس الدم، والدموع تنهمر منها بلا توقف، ووجهها شاحب كالموتى، ويداها بين يديى كقطعتى الثلج ترتشعان، وهى تنتحب وتتأوه فى صمت كالطير الذبيح، وتوقفت الكلمات بل وجفت فى حلقى، فلا أدرى كيف أقوم بتعزيه صديقتى فى مأتمها الذى أقامته لنفسها فى حياتها وتنتظر أن تتلقى فى نفسها العزاء، وقد كنت أعرفها منذ الطفولة هادئة، رقيقة، لطيفة، مهذبة، من عائلة محترمة طيبة، وهى ذات جمال وثراء بالإضافة إلى أنها مثال للاستقامة والطهر، عزلها أهلها وعاملوها كما لو كانت تحفة ثمينة لا يريدون ليد بشر أن تمتد إليها أو أن تعبث بها، فقضت كل وقتها فى قراءة الروايات الرومانسية التى بالإضافة إلى قلة خبرتها بالحياة لانعزالها عنها، رسمت لها الدنيا كأنها جنة مفروشة بالورود، وان الحياة لم تخلق إلا للحب، وأن هدفها فى الحياة أصبح الإلتقاء بفارس الأحلام وبناء عالم مستقل يجمعهما فقط كانت أحلام مراهقة، وقد كانت رغم ذلك متفوقة فى دراستها وقد تخرجت من الجامعة، وعندما ارادت العمل ليتسنى لها الخروج من حبسها الانفرادى الذى فرض عليها نصف عمرها، رفض والدها بحجة أنها تملك كل شىء ولا تحتاج لوظيفة أو مرتب، وعندما حاولت إقناعه بفكرتها ألقى عليها نظرة غاضبة كالسوط حبست لسانها فأسكنته عن الكلام، وعادت لتقضى كل وقتها بين الجدران، تحلم باليوم الذى ستذوب فيه الفواصل بينها وبين الحياة الحقيقية، وكنت ومجموعة من صديقاتها كل صلتها بالحياة الخارجية، وكنا ننقل لها الحكايات والأخبار ومن ضمن أحاديثنا أحاديث عن الصديقات اللاتى وقعن فى الحب وتتابع هى باهتمام وشغف شديدين القصة، وحينما كانت بعض القصص تنتهى بالزواج، تتراقص فرحاً وكأنما هى قصتها، وتردد لى (ألم أقل لك أن الحب الحقيقى موجود).
 وبعد فترة لاحظت أنها لم تعد سعيدة بسماع تلك القصص، وعندما سألتها كانت تجيبنى والحزن يعتصرهما، أنها تملك أضعاف أى واحدة من أصحاب تلك القصص، من مال وجمال وأخلاق وصحة وعلم، ولكنها لا تستطيع أن تحظى بنصف ما تحظى به أى واحدة منهن، وأنها تتمنى لو فقدت كل ما تملك ولكن تحظى بفرصة للسعادة مع شخص يحبها وتحبه، وكانت تحكى لى عن عن المغامرات والقصص التى تسمعها وتقرأها، والتى تبدأ فيها قصص الحب والزواج وأنها تتمنى لو أنها نفذت إحداها على أرض الواقع، وكنت أظنها تداعبنى بهذه العبارات، إلا أنها بالفعل التقطت رقم هاتف شخص يهوى المراسلة وتحدثت معه تليفونياً وطلبت منها أن يكونا أصدقاء، وقد فتنت به وأصبحت مغرمة به، وكنت أمنعها وأعنفها لفعلتها لكنها كانت كالفراشة التى تجرى نحو النار دون أن تدرى أو ربما أدركت ذلك وتعمدت أن تحترق لتتخلص من حياتها، كنت أراها سعيدة كطفلة بريئة وجدت أمها بعد أن فقدتها فى الزحام، بالإضافة إلى ذلك عندما أخبرتنى كانت قد أغرمت به إلى حد كبير ولا سبيل لمنعها بأى طريقة وقد نصحتها كثيراً بأن تجعل حدود معرفتها به هى حدود الصداقة، وخاصة أنها لا تعرفه جيداً وممكن أن يسىء استخدام علاقتهما، وأن لا تحبه بهذا الشكل، وهى لا تضمن أنه يبادلها هذا الحب، وعندما كنت أتعب من الجدل والنصح، أقول لها كم أخشى عليك من تسرعك هذا فى أن يدفعك لتتورطى فى شىء لا قبل لك به فترد على قائلة (وماذا تنتظرى منى أن أفعل أن أنتظر حتى أحترق وأصبح كالنار تحت الرماد)،وأتركها وهى فى غمرة سعادتها.
حتى جاء اليوم الذى كنت أخاف منه عليها فقد بدأ يعذبها ويراوغها حتى يرغمها على أن تقابله، وقابلته مرات عديدة دون أن تخبرنى وبعد تلك المقابلات أخبرها بأنه لولا ارتباطه بإنسانة أخرى يحبها كثيراً  لكان تقدم لها وارتبط بها طوال العمر، وصدمت صديقتى ولكنها تعلقت بالأمل وبدأت المآساة الحقيقية هى تطارده وهو يتهرب منها، حتى أخبرها أنه لم يعد يستطيع أن يجاريها فى صداقتها المزعومة، وإن كانت تريد حبيباً فلتبحث لنفسها عن واحد، وجاءت لى باكية مستنجدة شاحبة كالموتى، تشعر كأن جسدها جوالاً تراكم كل ما فيه فى قاعه وأصبح منتصباً يحوى الفراغ، كانت تنظر لنفسها وكأنها مشلولة الأطراف ذات جسد ميت وعقل حى عاش ليعذبها ويؤلمها بسبب التفكير فى الحياة التى تعيشها، كنت أعرف أن الموقف أكبر من أى مواساة وبعد أن استدعيت كل عبارات المواساة والتخفيف خرجت من عندى وقد قلت لنفسى إن الأمر سيأخذ وقتاً ثم يزول أدراج الرياح، وبعد يومين قلت لنفسى لابد أنها هدأت ولأطمئن عليها، وعندما ذهبت لمنزلها صعقتنى الصرخات التى تخرج من منزلها ومن بين شفتى والدتها عرفت أن صديقتى انتحرت أو قتلت بفعل حرمانها من الحياة وحاولوا اسعافها ولكن بدون جدوى كان الوقت قد فات، حاول أهلها حمايتها من الآخرين فأضاعوها بشدة حمايتهم لها فى الدنيا والآخرة،وكانت النار قد خبت بالفعل تحت الرماد.

الجمعة، 21 ديسمبر 2012

سعر الأحلام



كانت كالنحلة تدور حول الزهور تمتص الرحيق، تنتظر يوماً أن تصبح منتجة لعسل تستطيع تذوقه، هى فتاة فى العشرينيات، ذات ملامح بسيطة سهلة لا تجد فى شكلها ما يحيرك أو يلفت انتباهك، تكاد لا تراها من شدة انشغالها بعملها وانهماكها فيها، تعيش حياتها مؤمنة بأن الكفاح هو الطريق الطويل الذى يجب أن تمشيه لتصل إلى مآربها، وأنه لا يوجد شخص على وجه البسيطة سيقدم لها السعادة على صينية ذهبية إلا نفسها، كانت تدرس بجد واجتهاد، تصادق كل شخص سيساعدها فى صعود السلم لتصل إلى أحلامها المتعلقة بعنان السماء، كانت تتحمل الإهانات ونظرات الاحتقار والأزدراء، كل هذا سعر تقدمه آملة أنها ستصل يوماً ما بجدها واجتهادها وصبرها إلى مكانة تجعل كل من احتقرها أو أهانها يحترمها ويتمنى لو رضيت هى عليه.
 كانت ترى الشباب فى غاية الوسامة والرقة، فتنبض فى أحلامها الحياة وتمنى نفسها باليوم الذى ستكون فيه جديرة بأحدهم، أما الآن فلا مفر من إخماد الحياة ووئدها فى أحلامها بخصوص هذا الشأن، فالوقت والظروف غير ملائمين، كان عملها يتيح لها دخول أفخر المطاعم والفيلات والقصور، وتمنى نفسها بأنها يوماً ما لن تكون مدعوة، بل صاحبة الدعوة، ولن تكون تابعاً غير مرئى، بل ستكون نجماً عالياً ترتكز عليه كل الأنظار، تدخل المكاتب الفاخرة فتنظر للمكتب وتحلق بها أحلامها لليوم الذى ستجلس هى عليه وسيكون لإمضائها ألف حساب، وسترتفع قيمة الورق حتى لو كان أبيضاً مادامت قد وقعت هى عليه وعندما تنتهى من أحلامها طوال يومها الشاق الذى تقدمه ثمناً رخيصاً لأحلامها، تعود لمنزلها البسيط تنام فى فراشها البسيط تحملق فى سقف الغرفة الذى يئن من القدم ويكاد يسقط فوقها، وتقول لنفسها ما عيب هذا المنزل مادمت أعيش معظم أوقاتى فى الأماكن التى تستطيع أحلامى أن تحيا وتتنفس فيها.
حتى جاء يوم الفرج، وجاء الفرج بعد طول انتظار على يد أحد المكتشفين للكنوز دفينة الوحل والتراب، أحد رجال الأعمال عرض عليها وظيفة ستحقق لها كل ما تمنته، استطاع الرجل بعينه الخبيرة أن يثمن البضاعة ومدى جودتها وكفاءتها وسعرها وقبلت هى بفرح، ألقت باستقالتها لكل ما فى عالمها القديم، عالم الأحلام. ضحت بالوظيفة الصغيرة الآمنة فى عالم الأسماك، وانطلقت لعالم الحيتان ، تركت أسرتها ومنزلها وماضيها كما تركت ملابسها وأحذيتها البالية، لابد أن تبدأ بداية جديدة فى كل شىء، بداية تليق بالمكانة الجديدة، لن تؤخر انطلاق صاروخ أحلامها حتى يلحق أهلها بها، كل شىء يهون كسعر رخيص لأحلامها، انطلقت تقتنى منزلاً فخماً كما كانت تحلم، وملابساً فاخرة تليق بالوظيفة الجديدة وتبدلت أحوالها، كانت تنسى مواعيد الطعام، وتكاد تسقط من الإعياء لفرط إجهادها ولفرط المجهود الذى تبذله ، كانت ترى الدنيا وقد بدت تكشف لها عن عالم وردى وإذ بها فجأة بعد كل ذلك التحليق تسقط لتلقى حتفها، والقصة هى ذاتها الصراع بين التستر على جرائم بشعة والحفاظ على الوظيفة مصدر تحقيق الأحلام أو فضح كل تلك الجرائم والفوز براحة الضميروآثرت الأنتظار إلى أن أصبحت المشكلة أخطر فإما أن تنضم للمجموعة أو تخرج خارجها.
 ورفضت دون وعى وخرجت فقد نسيت أن تترك ضميرها أو تقتله مثلما تركت كل شىء وراءها، جلست على رصيف بجوار سيدة عجوز تعد الشاى والقهوة وتبيعها للمارة والعاملين على الرصيف، جلست ساعات طويلة ثم سألتها السيدة فشعرت بأن ملامح السيدة تشبه ملامح أمها فأجهشت بالبكاء وارتمت فوق صدر السيدة ودون أن تدرى روت لها كل ما فعلته وكيف أنها قدمت كل ما تملك سعراً لتحقيق أحلامها وها هى فقدت الحلم والواقع وتعيش فى كابوساً لا يقظة منه أبداً، فكان رد السيدة العجوز البسيطة، من قال لك يا ابنتى أن تجرى وراء أحلامك وتضحى بكل شىء كسعر لها، ألم يقل لك أحد ان الأحلام لا سعر لها عودى من حيث أتيت وأبدأى من جديد وعيشى الواقع ولا تدفعى سعراً لحلماً حتى لو أصبح حقيقة فيكفى الحلم عناء تحقيقه ولا سعر له بعد ذلك، إن ظل ظل وإن ذهب فلتبحثى عن غيره وتحققيه.

الأحد، 16 ديسمبر 2012

جيت متأخر



شردت بذهنها بعيداً ونسيت أنها تقوم بتهيئة البوفيه لاستقبال الضيوف احتفالا بعيد زواجها الأول، ورجعت بذاكرتها للوراء سنوات وسنوات وهى طالبة عندما دق قلبها للمرة الأولى لابن الجيران وأحبته في صمت ولكنها اكتشفت أنه يحب أبنة خالته ولا يشعر حتى بوجودها، انتقلت للمرحلة الجامعية وهناك ودون أن تقصد لفت نظرها شاب يرقبها بنظرات كلها حب وهيام، عرفت عنه انه شاب متفوق وناجح في عمله وحياته له مستقبل واعد يتسم بالأخلاق، ناضج ليس مراهقاً أو ممن يحبون التسلية ببنات الناس، قررت أن تبادله الحب دون أن يدرى سراً حتى يتقدم لطلب يدها، ومرت سنوات وفى يوم تخرجها اكتشفت أنه خطب غيرها بعد قصة حب ملتهبة.
 بحثت عن عمل وشغلت نفسها وانتظرت أن تقابل حباً أخر ولكن كلما احبت رجلاً أحب غيرها شعرت بالتضاؤل وأنها كائن غير مرئى، أنها تحب سراً وتعيش بالفشل سراً، مرت سنوات عديدة وتجارب فاشلة مريرة، انتظرت كثيراً، رأت كل من حولها يحبون ويتزوجون وينجبون وهى وحيدة، بل أنها خاسرة تخسر كل من تحبه، قرأت كثيراً وتعلمت كثيراً، تزينت عقلاً ومظهراً، اهتمت بكل ما يجعلها جميلة ومحبوبة في عيون الآخرين وقلوبهم وعقولهم ولكن الحبيب المنتظر والزوج المجهول ظل مجهولاً، صلت كثيراً ودعت كثيراً ومرت سنوات حتى بدأت تتأقلم مع الوضع، إلى أن اتصلت بها إحدى الصديقات، صديقات الأيام الخوالى وتبادلا حديثاً قصيراً دعتها لزيارتها لاستكمال الحديث عندها في المنزل، ووافقت فلم يكن لديها ما يشغلها، وجلسة الذكريات أفضل من جلسة الوحدة.
 وبالفعل زارتها وتبادلا أحاديث طويلة عن الحاضر والماضى وعرفت أن صديقتها متزوجة من رجل أعمال ناجح، طيب القلب لم تنجب منه وهو إنسان دمث الأخلاق وتعددت الزيارات وقابلت زوجها في أكثر من زيارة تبادلا أحاديث كثيرة سوياً مع زوجته، ثم فؤجئت ذات يوم باتصال هاتفى من الزوج يطلب منها أن تتجه للمستشفى لترى صديقتها، وهناك اكتشفت إصابة صديقتها بمرض خبيث في مراحله الأخيرة، وماتت الصديقة بعد كل المحاولات التى باءت بالفشل لإنقاذها من الموت.
 وبعد العزاء رجت الزوج كصديقة أن يتصل بها إذا ما أحتاج أى شىء وبعد مضى فترة وجدته يتصل يريد التحدث، بدأ بالحديث عن الذكريات حول المرحومة ثم تحولا لنفسيهما واكتشفت أنه يشبهها في كثير من النواحى وظلا يتحدثان ويتحدثان، وبعد العديد والعديد من المهاتفات طلب أن يقابلها وطلب منها الزواج، آثرت الانتظار حتى تخف آثار الذكرى ويتأكد كل طرف من مشاعره، ولكنها في نفسها كادت تطير من الفرح فقد جاء أخيراً، جاء بعد طول انتظار وتزوجا وها هى تحتفل معه بأحسن أعيادها عيد زواجها الأول وانتبهت على صوت زوجها (معلش جيت متأخر شوية، فردت وهى تلتفت لتعانقه من ناحية جيت متأخر أنت جيت متأخر بس المهم أنك أخيراً جيت).