الجمعة، 21 ديسمبر 2012

سعر الأحلام



كانت كالنحلة تدور حول الزهور تمتص الرحيق، تنتظر يوماً أن تصبح منتجة لعسل تستطيع تذوقه، هى فتاة فى العشرينيات، ذات ملامح بسيطة سهلة لا تجد فى شكلها ما يحيرك أو يلفت انتباهك، تكاد لا تراها من شدة انشغالها بعملها وانهماكها فيها، تعيش حياتها مؤمنة بأن الكفاح هو الطريق الطويل الذى يجب أن تمشيه لتصل إلى مآربها، وأنه لا يوجد شخص على وجه البسيطة سيقدم لها السعادة على صينية ذهبية إلا نفسها، كانت تدرس بجد واجتهاد، تصادق كل شخص سيساعدها فى صعود السلم لتصل إلى أحلامها المتعلقة بعنان السماء، كانت تتحمل الإهانات ونظرات الاحتقار والأزدراء، كل هذا سعر تقدمه آملة أنها ستصل يوماً ما بجدها واجتهادها وصبرها إلى مكانة تجعل كل من احتقرها أو أهانها يحترمها ويتمنى لو رضيت هى عليه.
 كانت ترى الشباب فى غاية الوسامة والرقة، فتنبض فى أحلامها الحياة وتمنى نفسها باليوم الذى ستكون فيه جديرة بأحدهم، أما الآن فلا مفر من إخماد الحياة ووئدها فى أحلامها بخصوص هذا الشأن، فالوقت والظروف غير ملائمين، كان عملها يتيح لها دخول أفخر المطاعم والفيلات والقصور، وتمنى نفسها بأنها يوماً ما لن تكون مدعوة، بل صاحبة الدعوة، ولن تكون تابعاً غير مرئى، بل ستكون نجماً عالياً ترتكز عليه كل الأنظار، تدخل المكاتب الفاخرة فتنظر للمكتب وتحلق بها أحلامها لليوم الذى ستجلس هى عليه وسيكون لإمضائها ألف حساب، وسترتفع قيمة الورق حتى لو كان أبيضاً مادامت قد وقعت هى عليه وعندما تنتهى من أحلامها طوال يومها الشاق الذى تقدمه ثمناً رخيصاً لأحلامها، تعود لمنزلها البسيط تنام فى فراشها البسيط تحملق فى سقف الغرفة الذى يئن من القدم ويكاد يسقط فوقها، وتقول لنفسها ما عيب هذا المنزل مادمت أعيش معظم أوقاتى فى الأماكن التى تستطيع أحلامى أن تحيا وتتنفس فيها.
حتى جاء يوم الفرج، وجاء الفرج بعد طول انتظار على يد أحد المكتشفين للكنوز دفينة الوحل والتراب، أحد رجال الأعمال عرض عليها وظيفة ستحقق لها كل ما تمنته، استطاع الرجل بعينه الخبيرة أن يثمن البضاعة ومدى جودتها وكفاءتها وسعرها وقبلت هى بفرح، ألقت باستقالتها لكل ما فى عالمها القديم، عالم الأحلام. ضحت بالوظيفة الصغيرة الآمنة فى عالم الأسماك، وانطلقت لعالم الحيتان ، تركت أسرتها ومنزلها وماضيها كما تركت ملابسها وأحذيتها البالية، لابد أن تبدأ بداية جديدة فى كل شىء، بداية تليق بالمكانة الجديدة، لن تؤخر انطلاق صاروخ أحلامها حتى يلحق أهلها بها، كل شىء يهون كسعر رخيص لأحلامها، انطلقت تقتنى منزلاً فخماً كما كانت تحلم، وملابساً فاخرة تليق بالوظيفة الجديدة وتبدلت أحوالها، كانت تنسى مواعيد الطعام، وتكاد تسقط من الإعياء لفرط إجهادها ولفرط المجهود الذى تبذله ، كانت ترى الدنيا وقد بدت تكشف لها عن عالم وردى وإذ بها فجأة بعد كل ذلك التحليق تسقط لتلقى حتفها، والقصة هى ذاتها الصراع بين التستر على جرائم بشعة والحفاظ على الوظيفة مصدر تحقيق الأحلام أو فضح كل تلك الجرائم والفوز براحة الضميروآثرت الأنتظار إلى أن أصبحت المشكلة أخطر فإما أن تنضم للمجموعة أو تخرج خارجها.
 ورفضت دون وعى وخرجت فقد نسيت أن تترك ضميرها أو تقتله مثلما تركت كل شىء وراءها، جلست على رصيف بجوار سيدة عجوز تعد الشاى والقهوة وتبيعها للمارة والعاملين على الرصيف، جلست ساعات طويلة ثم سألتها السيدة فشعرت بأن ملامح السيدة تشبه ملامح أمها فأجهشت بالبكاء وارتمت فوق صدر السيدة ودون أن تدرى روت لها كل ما فعلته وكيف أنها قدمت كل ما تملك سعراً لتحقيق أحلامها وها هى فقدت الحلم والواقع وتعيش فى كابوساً لا يقظة منه أبداً، فكان رد السيدة العجوز البسيطة، من قال لك يا ابنتى أن تجرى وراء أحلامك وتضحى بكل شىء كسعر لها، ألم يقل لك أحد ان الأحلام لا سعر لها عودى من حيث أتيت وأبدأى من جديد وعيشى الواقع ولا تدفعى سعراً لحلماً حتى لو أصبح حقيقة فيكفى الحلم عناء تحقيقه ولا سعر له بعد ذلك، إن ظل ظل وإن ذهب فلتبحثى عن غيره وتحققيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق