الأحد، 23 ديسمبر 2012

وخبت النار تحت الرماد



كلما رأيت ناراً تخبو تذكرت صديقتى الحميمة وهى تجلس أمامى، عيناها ككؤوس الدم، والدموع تنهمر منها بلا توقف، ووجهها شاحب كالموتى، ويداها بين يديى كقطعتى الثلج ترتشعان، وهى تنتحب وتتأوه فى صمت كالطير الذبيح، وتوقفت الكلمات بل وجفت فى حلقى، فلا أدرى كيف أقوم بتعزيه صديقتى فى مأتمها الذى أقامته لنفسها فى حياتها وتنتظر أن تتلقى فى نفسها العزاء، وقد كنت أعرفها منذ الطفولة هادئة، رقيقة، لطيفة، مهذبة، من عائلة محترمة طيبة، وهى ذات جمال وثراء بالإضافة إلى أنها مثال للاستقامة والطهر، عزلها أهلها وعاملوها كما لو كانت تحفة ثمينة لا يريدون ليد بشر أن تمتد إليها أو أن تعبث بها، فقضت كل وقتها فى قراءة الروايات الرومانسية التى بالإضافة إلى قلة خبرتها بالحياة لانعزالها عنها، رسمت لها الدنيا كأنها جنة مفروشة بالورود، وان الحياة لم تخلق إلا للحب، وأن هدفها فى الحياة أصبح الإلتقاء بفارس الأحلام وبناء عالم مستقل يجمعهما فقط كانت أحلام مراهقة، وقد كانت رغم ذلك متفوقة فى دراستها وقد تخرجت من الجامعة، وعندما ارادت العمل ليتسنى لها الخروج من حبسها الانفرادى الذى فرض عليها نصف عمرها، رفض والدها بحجة أنها تملك كل شىء ولا تحتاج لوظيفة أو مرتب، وعندما حاولت إقناعه بفكرتها ألقى عليها نظرة غاضبة كالسوط حبست لسانها فأسكنته عن الكلام، وعادت لتقضى كل وقتها بين الجدران، تحلم باليوم الذى ستذوب فيه الفواصل بينها وبين الحياة الحقيقية، وكنت ومجموعة من صديقاتها كل صلتها بالحياة الخارجية، وكنا ننقل لها الحكايات والأخبار ومن ضمن أحاديثنا أحاديث عن الصديقات اللاتى وقعن فى الحب وتتابع هى باهتمام وشغف شديدين القصة، وحينما كانت بعض القصص تنتهى بالزواج، تتراقص فرحاً وكأنما هى قصتها، وتردد لى (ألم أقل لك أن الحب الحقيقى موجود).
 وبعد فترة لاحظت أنها لم تعد سعيدة بسماع تلك القصص، وعندما سألتها كانت تجيبنى والحزن يعتصرهما، أنها تملك أضعاف أى واحدة من أصحاب تلك القصص، من مال وجمال وأخلاق وصحة وعلم، ولكنها لا تستطيع أن تحظى بنصف ما تحظى به أى واحدة منهن، وأنها تتمنى لو فقدت كل ما تملك ولكن تحظى بفرصة للسعادة مع شخص يحبها وتحبه، وكانت تحكى لى عن عن المغامرات والقصص التى تسمعها وتقرأها، والتى تبدأ فيها قصص الحب والزواج وأنها تتمنى لو أنها نفذت إحداها على أرض الواقع، وكنت أظنها تداعبنى بهذه العبارات، إلا أنها بالفعل التقطت رقم هاتف شخص يهوى المراسلة وتحدثت معه تليفونياً وطلبت منها أن يكونا أصدقاء، وقد فتنت به وأصبحت مغرمة به، وكنت أمنعها وأعنفها لفعلتها لكنها كانت كالفراشة التى تجرى نحو النار دون أن تدرى أو ربما أدركت ذلك وتعمدت أن تحترق لتتخلص من حياتها، كنت أراها سعيدة كطفلة بريئة وجدت أمها بعد أن فقدتها فى الزحام، بالإضافة إلى ذلك عندما أخبرتنى كانت قد أغرمت به إلى حد كبير ولا سبيل لمنعها بأى طريقة وقد نصحتها كثيراً بأن تجعل حدود معرفتها به هى حدود الصداقة، وخاصة أنها لا تعرفه جيداً وممكن أن يسىء استخدام علاقتهما، وأن لا تحبه بهذا الشكل، وهى لا تضمن أنه يبادلها هذا الحب، وعندما كنت أتعب من الجدل والنصح، أقول لها كم أخشى عليك من تسرعك هذا فى أن يدفعك لتتورطى فى شىء لا قبل لك به فترد على قائلة (وماذا تنتظرى منى أن أفعل أن أنتظر حتى أحترق وأصبح كالنار تحت الرماد)،وأتركها وهى فى غمرة سعادتها.
حتى جاء اليوم الذى كنت أخاف منه عليها فقد بدأ يعذبها ويراوغها حتى يرغمها على أن تقابله، وقابلته مرات عديدة دون أن تخبرنى وبعد تلك المقابلات أخبرها بأنه لولا ارتباطه بإنسانة أخرى يحبها كثيراً  لكان تقدم لها وارتبط بها طوال العمر، وصدمت صديقتى ولكنها تعلقت بالأمل وبدأت المآساة الحقيقية هى تطارده وهو يتهرب منها، حتى أخبرها أنه لم يعد يستطيع أن يجاريها فى صداقتها المزعومة، وإن كانت تريد حبيباً فلتبحث لنفسها عن واحد، وجاءت لى باكية مستنجدة شاحبة كالموتى، تشعر كأن جسدها جوالاً تراكم كل ما فيه فى قاعه وأصبح منتصباً يحوى الفراغ، كانت تنظر لنفسها وكأنها مشلولة الأطراف ذات جسد ميت وعقل حى عاش ليعذبها ويؤلمها بسبب التفكير فى الحياة التى تعيشها، كنت أعرف أن الموقف أكبر من أى مواساة وبعد أن استدعيت كل عبارات المواساة والتخفيف خرجت من عندى وقد قلت لنفسى إن الأمر سيأخذ وقتاً ثم يزول أدراج الرياح، وبعد يومين قلت لنفسى لابد أنها هدأت ولأطمئن عليها، وعندما ذهبت لمنزلها صعقتنى الصرخات التى تخرج من منزلها ومن بين شفتى والدتها عرفت أن صديقتى انتحرت أو قتلت بفعل حرمانها من الحياة وحاولوا اسعافها ولكن بدون جدوى كان الوقت قد فات، حاول أهلها حمايتها من الآخرين فأضاعوها بشدة حمايتهم لها فى الدنيا والآخرة،وكانت النار قد خبت بالفعل تحت الرماد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق