الأحد، 17 فبراير 2013

لوحة على الجدار القديم

فى منزل أبى رحمه الله حيث كل الجدران متآكلة من الرطوبة حتى أصبحت متهدمة فهى جدران شاخت، وبالرغم من ذلك فلقد ضمتنا أنا وأبى وأخى، وشهدت على زمان لم يكن هناك ما يعكر صفونا غير أخى المعاق الذى كان مستقبله يؤرق والديى، كانا يعرفان أن مستقبلى مضمون لأنى ولدت طبيعية أما هو فمسكين لأنه معاق، كنت أشعر نحوه بالشفقة، ولكنى لم أدرك أن قدر أحدنا أرتبط بالآخر، إنه فقط ليس معاقاً بل سيعوق طريق حياتى، وفى سن الشباب وأنا على وشك التخرج مات والدى ولحقت به أمى عقب تخرجى بفترة قصيرة، وأقفر البيت الذى كان يمتلىء بالحياة والناس والبهجة، وخلا من كل ذلك ماعداى أنا وأخى المعاق الذى لا يستطيع خدمة نفسة حتى فى أبسط الأشياء، فى الأيام الأولى لتحملى مسئوليته كدت أجن فلم أكن اعتقد أن تحمل مسئولية معاق بتلك الصعوبة، أو ربما لأن أمى كانت تهتم به دون أن تكلفنى بشىء تجاهه ولم تهيئنى لتحمل ذلك الموقف، كنت أصرخ فيه كالمجنونة فينظر إلى ببراءة كالأطفال، كانت مسئوليته ومسئولية المنزل والعمل وطموحاتى التى تعطلت لأجل غير مسمى ووحدتى كل ذلك يضغط على أعصابى ويكاد يطيح بعقلى.
  ولكن بعد فترة استسلمت لقدرى، وتقدم لى بعض الراغبين فى الزواج منى، لكن لم استطع ارغامهم على مشاركتى عبئى وكذلك لم استطع التخلى عنه، حتى هذا الحلم تأجل إلى أجل غير مسمى، كنت كمن تدور فى الساقية استيقظ فأجهز له إفطاره ثم أذهب به إلى مركز لتدريب المعاقين،وأذهب لعملى ثم أعود به للمنزل وأقوم بكل أعمال المنزل، وفى المساء يتناول عشاءه وينام كالطفل وهو يسند برأسه إلى كتفى، وأظل أدور أنا فى المنزل كالفراشة التى تحترق، لامن ونيس ولا من جليس أقرأ روايات أعيش مع أبطالها فى الخيال ، هذا ما كان يخفف عنى بعض همومى، وأنهمك فى القراءة وفى إحدى أيام الأجازة قررت أن أقوم بنظافة شاملة، وخاصة أن مركز التدريب قام برحلة وأشركت أخى فيها لأستريح من المسئولية بعض الشىء، وأتفرغ لأعمالى المنزلية بهدوء.
وعندما فرغت من الغرف توجهت للصالة، وعند ذلك الجدار القديم، كان هناك لوحة قديمة لشاب وسيم يركع عند قدمى فتاة جميلة ويقبل يديها وينظر نحوها بحب وشغف شديد، شدتنى تلك اللوحة وكأنى أراها للمرة الأولى، وظل بصرى مركزاً على اللوحة ربما سرح خيالى أو لست أدرى لكن الشاب الوسيم فى الصورة خرج من لوحته المسجون بها وركع عند قدمى، وقبل يدى وطلب منى أن أرقص معه، وظل يدور بى وأنا كالفراشة أدور وأحلق فى جو من السعادة، لم أدر كيف أصف طعم ذلك الاحساس، ظل يحدثنى عن جمالى، وعن أنه يرانى بينما لا ألتفت أنا إليه، وعندما دق جرس الباب معلناً وصول أخى كان قد مر الكثير من الوقت، حدد لى موعداً لنتقابل فى المساء وعاد إلى لوحته وفتحت أنا الباب، واختفى.
ظللت أعتقد أن ماحدث من نسج خيالى، وأنه بالطبع غير حقيقى، وجاء المساء ولكن ماحدث بالنهار أرقنى، حاولت النوم لم استطع، عدت للوحة ونظرت وتلمستها فإذا به يقفز من داخلها، ويقول لى هل تأخرت عليك أذهلنى حضوره، ظللت أهز رأسى وأقول لنفسى هذا خيال-هذا خيال، لكنه واجهنى ونظر فى عينىَ وقال لى (أحبك)، سهر معى حتى الصباح، شاهدنا القمر والنجوم وبزوغ الفجر، كيف لم أتذوق جمال كل تلك الأشياء، وجاء الصباح وقمت بما أقوم به كل يوم، لكنى كنت أكثر سعادة، وأكثر اندهاشاً لما يجرى، وجاءنى فى الليلة التالية والتى تليها والتى تليها وأصبح يأتينى كل ليلة، وأصبح للحياة طعماً آخر، أتزين كل مساء وأنتظره بفرحة، يكاد قلبى يطير من السعادة، كان يسمينى(ملكة الليل المتوجة)، شاهدنا أفلام السهرة سوياً، ودفنت رأسى فى صدره لأخفى دمعاتى بين جوانحه، كانت ضماته كارتشاف النحل لرحيق الزهور، ما أجمل الحب وأروعه، كيف لم أعش ذلك الاحساس من قبل تحدثنا وثرثرنا ولعبنا وتناقشنا، كان يساعدنى فى تجهيز العشاء ويوقد لى الشموع، وتظل نظرات عيوننا متعانقة حتى يأتى الصباح، فيراقصنى على أنغام من عزف العصافير، معه تبدل حالى واستعدت شبابى الذى ضاع فى غفلة منى، أشعل فى الحياة، جعل للوقت والأيام قيمة، ونشر الألوان فى كل مكان ليغطى قتامة الدنيا التى عشتها لسنوات.
وقررت ذات يوم أن أجدد المنزل ليعبر عن فرحتى بحبى الجديد ويناسب حباً وليداً، وليسعد حبيبى وتم الإتفاق مع العمال، تركت المنزل لهم على أن أعود لهم فى نهاية اليوم لأجد الجدران القديمة المتهالكة وقد جدد شبابها، وعادت حية مثلى من جديد تنبض بالفرحة والحياة لكنى فؤجئت باختفاء لوحة حبيبى، وعندما دارت عيونى فى أرجاء المنزل متسائلة رد أحد العمال(معلش ياهانم اللوحة القديمة التى كانت على الحيطة وأنا بأشيلها انكسرت، معلش عموماً هى كانت مش مناسبة للحيطة الجديدة) كدت أقطع أوصاله، وهالنى منظر اللوحة وهى محطمة تماماً ولم يكد وجه حبيبى يظهر، هرعت إلى بائع اللوحات ليجد لى طريقة لإصلاحها فأخبرنى أن تصليحها غير مجدى ، ظللت أتوسل إليه، وهو ينظر إلى بدهشة وتعجب متسائلاً أى قيمة للوحة قديمة مهشمة وطفق يعرض على لوحات يظن أنها أفضل من لوحتى، فتركته وعدت إلى البيت أحاول جمع أجزاء حبيبى حتى يعود إلى، لكن الليال مرت ولم يعد حبيبى، ظللت أتندم ليتنى تركت الجدار القديم واللوحة فوقه لكنت أعيش الآن فى سعادة مع حبيبى. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق